القلب فى القرآن

إن أسمى نعمة أنعم الله تعالى بها على هذا الإنسان هي نعمة الإسلام، ولا يعرف قيمتها من لم يعشها ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن أحب عبداً لا يحبه إلا لله ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار»(1)، وبعد الإسلام نعمة العقل التي بها نميز الحق من الباطل والخير من الشر، وقد ذكر الله سبحانه في كتابه مشتقات العقل في مواضع كثيرة أعطى فيها له مكانة مهمة، ولكن المتدبر لآيات القرآن يجد أن الله تعالى: يذكر للعقل مكاناً غير الذي يعتقده الناس، ففي معرض وعيده للعصاة بسبب إعراضهم عن الهدى والمنهج القويم يقول سبحانه: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179]، حيث نرى أن سبب إعراضهم عن الله هو عدم استخدام قلوبهم للتفكر والتدبر والتفقه، وفي آية أخرى نرى أن الله يندب العقلاء من الناس إلى السير والتدبر في هذا الكون ليعلموا أن الله ما خلق هذا باطلا؛ حاشا وكلا بل إنما سخر كل تلك المخلوقات للإنسان لينعم في الأرض وليؤدي دوره الذي أراده له دون تقصير أو تلكؤ فقال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46] فما رأيك أخي القارئ أن نتجول في رحاب القرآن وتفاسير المفسرين وأقوال العلماء واكتشافات المعاصرين لنكون على علم بما في هذا الكون من أسرار أودعها الله فيه؛ إذن لنتناول الموضوع من بدايته حيث سأتناول الآيات التي ذكرت هذا المعنى ثم نعرج على أقوال المفسرين ومن ثم نعود إلى ما كان من اكتشافات في عصر العلم والنهضة، وبعد ذلك يتسنى لنا وجه الإعجاز في هذا كله. الآيات الواردة في مجال البحث: تكرر ذكر القلب في القرآن أكثر من مائة وست وعشرون مرة، غير أني لم أتناول جميع الآيات تجنباً للإطالة وقصداً لما بعده حيث حاولت أن أفهرسها حسب نوع الورود وسياق الآية. النوع الأول: من الآيات والتي تناولناها في المقدمة واضحة في كون العقل إنما محله القلب وهي: 1. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179] 2. قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46] وهذه الآيات سنتناولها بشيء من التفصيل في بحثنا هذا. النوع الثاني: وهي آيات تتحدث عن إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 97]، وقال عز وجل: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾ [الشعراء: 193-194] فالآيتان تخبران أن القرآن أنزل على قلب محمد لا على عقله، ولولا وجود النص لقلنا إن القرآن وحفظه يكون في الدماغ لأننا نرى من لا دماغ له (المجنون) لا يستطيع حفظ القرآن ولا تلاوته، ومعلوم أن المجنون له قلب بلا مرية في هذا. النوع الثالث: وهي آيات تتحدث عن اليقين وصدق الإيمان. قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 260]، وقال الله عز وجل: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [القصص: 10]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37] وفي ما تقدم تتحدث الآيات عن الإيمان واليقين الذي ألقاه على كل من إبراهيم وأم موسى، والأصل أن الإيمان إنما هو علم يعقبه العمل، ولا شك أن العلم محله العقل فهل أن العقل هو في القلب ليطمئن قلب إبراهيم عليه السلام وكذلك أم موسى لتثبت في تلك المحنة؟ النوع الرابع: آيات فيها التشريع الرباني للبشر. قال تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 283]، وقال الله عز وجل: ﴿مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: 106]، وقال الله عز وجل: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾ [الكهف: 28] وفي ما تقدم من الآيات نرى أن الله يؤثّم قلب كاتم الشهادة مع أنه إنما كتمها بعد أن علمها، فأين كان موقع علمها يا ترى في القلب أم في الدماغ؟ وفي سياق الثبات عند المحنة إلا من اضطر لكلمة الكفر وهو مطمئن بالإيمان يطرح نفس السؤال هل الإيمان في القلب أم في الدماغ؟ وهل القلب سوى عضلة لضخ الدماء؟ أم هناك سر وراء هذه المضغة؟ النوع الخامس: آيات تتحدث عن قدرة الله عموما ًوفي المعرضين خصوصاً. قال تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأنعام: 110]، وقال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: 24]، وقال الله عز وجل: ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ [غافر: 35]، وقال الله عز وجل: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 23]، وقال الله عز وجل:﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التغابن: 11] فنرى أن قدرة الله العظيمة كيف تحول بين المرء وقلبه وأن قدرته أو ما يسمى بالعلم السابق له سبحانه تقلب القلوب حسب مشيئته، وهو وحده بيده الهداية والضلال، هذا في العاقل البالغ، وكلنا يعلم أن المجنون ممن رفع عنه القلم، وهو إنما رفع عنه لما أسلفنا من ذهاب عقله، لا قلبه فكيف نجمع بين وجود القلب وذهاب العقل والله يخبرنا بأن العقل في القلب؟ النوع السادس: آيات تتحدث عن المآل في الآخرة. قال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾[الشعراء:88-89]، وقال الله تعالى: ﴿إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: 84]، وقال عز وجل: ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ﴾ [ق: 33] وهنا الآيات كلها تشير إلى القلب أيضاً دون العقل رغم أن العقل هو مناط التكليف كما يقول العلماء، ومن غاب عقله رفع عنه التكليف. النوع الثامن: آيات تتحدث عن أمراض باطنية سماها القرآن بأمراض القلوب. قال تعالى: ﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾[الأحزاب: 32] فالذي يهم بمعصية أو يعملها إنما كان قد أعد لها وخطط وعزم، وكل ذلك يدل على أن صاحب هذا السلوك قد انحرف عن الصراط القويم والمنهج المستقيم، حيث خضع لوساوس الشيطان، وتنازل لنفسه الأمارة بالسوء، فأعمل عقله ونظر وبسر وأدبر واستكبر عن أمر خالقه، فهل كان كل ذلك في عقله أم في قلبه؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

امتحانات السنوات السابقة لمادة اللغة العربية للصف الثالث الثانوى وإجاباتها

آداب الصداقة لابن مسكويه للصف الثانى الثانوى

مكارم الأخلاق وحاتم الطائى شرح الأستاذ محمد فهمى